فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (5):

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
الْلِينَةُ هُنَا، قِيلَ: اسْمٌ عَامٌّ لِلنَّخْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ فَقَطْ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ إِلَى يَاءٍ إِلَخْ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَرِيبٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خَاصًّا، وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، وَيُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخِيلِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ نَوْعًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْلِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِهَا بِالْحَيَاةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَقْطِيعِ وَتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصَارِهِمْ وَقَطَعَ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبُوَيْرَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ حَسَّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ** حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

وَالْبُوَيْرَةُ مَعْرُوفَةٌ الْيَوْمَ، وَهِيَ بُسْتَانٌ يَقَعُ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ قَطْعَ مَا قُطِعَ وَتَرْكَ مَا تُرِكَ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: الْإِذْنُ الْقَدَرِيُّ وَالْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، أَيْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [3/ 166]، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [3/ 152].
وَالَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [22/ 39]؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ إِذْنٌ بِكُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْحِصَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحِصَارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمَامِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ لِإِحْكَامِ الْحِصَارِ، أَوْ لِإِذْلَالِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فِي حِصَارِهِ وَإِشْعَارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَةِ أَمْوَالِهِ، وَمُمْتَلَكَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِثَارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ فِي حَمِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ وَيَسْهُلَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالَّتِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: بِعَجْزِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ نَخِيلَهُمْ يُقْطَعُ، وَيُحْرَقُ فَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا.
وَعَلَى كُلٍّ فَالَّذِي أَذِنَ بِالْقِتَالِ وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقُ الْأَنْفُسِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سَبْيٍ وَغَنَائِمَ لَا يَمْنَعُ فِي مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إِنْ لَزِمَ الْأَمْرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَذِنَ.
وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مِنْ مَذَلَّةِ الْعَدُوِّ إِتْلَافَ مُنْشَآتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَغَايَةُ مَا فِيهِ، أَنَّهُ إِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأَخْذِ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، كَعَمَلِ الْخِضْرِ فِي سَفِينَةِ الْمَسَاكِينَ لَمَّا خَرَقَهَا، أَيْ أَعَابَهَا بِإِتْلَافِ بَعْضِهَا؛ لِيَسْتَخْلِصَهَا مِنِ اغْتِصَابِ الْمَلِكِ إِيَّاهَا، وَقَالَ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [18/ 82].
وَقَدْ جَاءَ اعْتِرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا اعْتَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [2/ 217].
فَقَدْ تَعَاظَمَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَاتَّهَمُوهُمْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوجِبِ مَا قَالُوا بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَلَكِنْ مَا ارْتَكَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَصَدٍّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أَيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَكَذَا هُنَا لَئِنْ تَعَاظَمَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وَعَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِيقَاعَ الْفَسَادِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْمَالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ الْعُهُودَ، وَتَمَالُئِهِمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ سَجَّلَ هَذَا الْمَعْنَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:
لَقَدْ خَزِيَتْ بِغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ ** كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ ** عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرٌ

وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا ** وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ

إِلَى أَنْ قَالَ:
فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا ** وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْحَقِّ النُّفُورُ

أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ ** وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ

فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمُ ** وَكَانَ نَصِيرَهُ نِعْمَ النَّصِيرُ

فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ خِزْيَ بَنِي النَّضِيرِ بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَكَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ هُوَ عَمَلٌ تَشْرِيعِيٌّ إِذَا مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، لِمِثْلِ مَا دَعَتِ الْحَاجَّةُ هَنَا إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}.
الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ هُنَا عَائِدٌ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ.
وَالْفَيْءُ: الْغَنِيمَةُ بِدُونِ قِتَالٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ تَعَالَى هُنَا عَلَى رَسُولِهِ خَاصَّةً.
وَقَالَ: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [59/ 6] أَيْ: لَمَّا كَانَ إِخْرَاجُ الْيَهُودِ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَبِمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ جَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي سَاقَهُ الشَّيْخُ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عِنْدَ آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى مَبَاحِثِ الْأَنْفَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَا مِنَ الْمَغَانِمِ، وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ أَوْسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ مُطَالَبَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} [59/ 6]، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَا لِلَّهِ إِلَخْ. اهـ.
وَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَّةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جَاءَ بَعْدَهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أَيْ: عُمُومًا: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [59/ 7].
وَهَذِهِ الْآيَةُ لِعُمُومِهَا مَصْدَرًا وَمَصْرِفًا، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَبَاحِثَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ مَا فِيهَا عِنْدَ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [8/ 1]، فَاسْتَوْفَى وَاسْتَقْصَى وَفَصَّلَ وَبَيَّنَ مَصَادِرَ وَمَصَارِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ، وَمَا فُتِحَ مِنَ الْبِلَادِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، وَمَسَائِلَ عَدِيدَةً مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلَا غِنَى عَنْهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}.
مَعْنَى الدُّولَةِ وَالدَّوْلَةِ بِضَمِّ الدَّالِّ فِي الْأُولَى، وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِيَةِ: يَدُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ: الظُّفْرُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَدَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ: كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى الْفُقَرَاءَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا جَدًّا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ، أَوْ كَيْلَا يَكُونَ دَوْلَةً جَاهِلِيَّةً بَيْنَهُمْ.
وَمَعْنَى الدَّوْلَةِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّئَاسَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَالْمَعْنَى: كَيْلَا يَكُونَ أَخْذُهُ غَلَبَةً أَثَرَةً جَاهِلِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا، يُرِيدُ مَنْ غَلَبَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ، إِلَخْ.
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ هُنَا: أَنَّ دُعَاةَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمِ الْفَاسِدِ وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَى مَصَادِرِ الْإِنْتَاجِ وَرُءُوسِ الْأَمْوَالِ؛ لِتُعْطِيَهَا أَوْ تُشْرِكَ فِيهَا الْفُقَرَاءَ، وَمَا يُسَمُّونَهُمْ طَبَقَةَ الْعُمَّالِ، وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كَسَادٍ اقْتِصَادِيٍّ، وَفَسَادٍ اجْتِمَاعِيٍّ، قَدْ ثَبَتَ خَطَؤُهُ، وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ مُجَانِبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ.
لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ تُرِكَ لِمَرَافِقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَتَأْمِينِ الْغُزَاةِ فِي الْحُدُودِ وَالثُّغُورِ، وَلَيْسَ يُعْطَى لِلْأَفْرَادِ كَمَا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ أَسَاسًا مَالٌ جَاءَ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ نَتِيجَةَ كَدْحِ الْفَرْدِ وَكَسْبِهِ.
وَلَمَّا كَانَ مَالُ الْغَنِيمَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِشَخْصٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا كَسْبٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، تَحَقَّقَ فِيهِ الْعُمُومُ فِي مَصْدَرِهِ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَالْعُمُومُ فِي مَصْرِفِهِ، وَهُوَ عُمُومُ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، وَلَا دَخْلَ وَلَا وُجُودَ لِلْفَرْدِ فِيهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ فِي التَّشْرِيعِ وَهَذَا الْفَرْعِ فِي التَّضْلِيلِ.
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّهُمْ يُؤَيِّدُونَ دَعْوَاهُمْ بِإِقْحَامِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا دَامَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَالْمَاءُ شَرِكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا دَامَ فِي مَوْرِدِهِ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْبِئْرِ الْعَامِّ أَوِ السَّيْلِ أَوِ الْغَدِيرِ. أَمَّا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مَوْرِدِهِ الْعَامِّ، وَأَصْبَحَ فِي حِيَازَةٍ مَا فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ مَعَ مَنْ حَازَهُ، كَمَنْ مَلَأَ إِنَاءً مِنَ النَّهْرِ أَوِ السَّيْلِ وَنَحْوِهِ، فَمَا كَانَ فِي إِنَائِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ، وَهَذَا الْكَلَأُ مَا دَامَ عُشْبًا فِي الْأَرْضِ الْعَامَّةِ لَا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ عَامٌّ لِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ، فَإِذَا مَا احْتَشَّهُ إِنْسَانٌ وَحَازَهُ فَلَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ نَابِتًا فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ فَهُوَ مُشَاعٌ لِلْجَمِيعِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ يُصَادُ. فَإِنَّهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الصَّيَّادِينَ، فَإِذَا مَا صَادَهُ إِنْسَانٌ فَقَدْ حَازَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَعْتَرِفُ فِيهِ جَمِيعُ النُّظُمِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَتُعْطَى تَرَاخِيصٌ رَسْمِيَّةٌ لِذَلِكَ.
وَهُنَاكَ الْعَمَلُ الْجَارِي فِي تِلْكَ الدُّوَلِ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ يَتَنَاقَضُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ فِي شَرِكَاتِ الْمِيَاهِ وَالنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ بَيْتٍ عَدَّادًا يَعُدُّ جَالُونَاتِ الْمَاءِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا الْمَنْزِلُ وَيُحَاسِبُونَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَأَخَّرَ قَطَعُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ وَحَرَمُوهُ مِنْ شُرْبِهِ.
وَكَذَلِكَ التَّيَّارُ الْكَهْرَبَائِيُّ؛ فَإِنَّهُ نَارٌ، وَهُوَ الطَّاقَةُ الْفَعَّالَةُ فِي الْمُدُنِ فَإِنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ بِعَدَّادٍ يَعُدُّ الْكِيلُواتْ، وَيَبِيعُونَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ، فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُونَ الْمَاءَ وَالْكَهْرَبَاءَ، شَرِكَةً بَيْنَ الْمُوَاطِنِينَ؟ أَمِ النَّاسُ شُرَكَاءُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَى الدَّوْلَةِ، أَمَّا حَقُّ الدَّوْلَةِ فَخَاصٌّ لِلْحُكَّامِ؟ إِنَّهُ عَكْسُ مَا فِي قَضِيَّةِ الْفَيْءِ تَمَامًا.
حَيْثُ إِنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حَلَالًا مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ كَسْبٌ عَامٌّ دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَجْهُودِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، الْمَاثِلِ فِي الْجَيْشِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِاسْمِهَا، وَجَعَلَهُ تَعَالَى فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
فَلِلَّهِ: أَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلِلرَّسُولِ: لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ عَامًا، وَمَا بَقِيَ يَرُدُّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلِذِي الْقُرْبَى: مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ.
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ: هَذَا هُوَ التَّكَافُلُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي الْأُمَّةِ.
وَابْنِ السَّبِيلِ: الْمُنْقَطِعُ فِي سَفَرِهِ، وَهَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُوَاصَلَاتِ.
فَكَانَ مَصْرِفُهُ بِهَذَا الْعُمُومِ دُونَ اخْتِصَاصِ شَخْصٍ بِهِ أَوْ طَائِفَةٍ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
وَإِنَّهُ لَمِنْ مَوَاطِنِ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ هَذَا التَّشْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} الْآيَةَ [59/ 7]؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي أَمْرٍ يَمَسُّ الْوَتَرَ الْحَسَّاسَ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ مَوْطِنُ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ أَلَا وَهُوَ كَسْبُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ صِنْوُ النَّفْسِ، وَالَّذِي تَوَلَّى اللَّهُ قِسْمَتَهُ فِي أَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْمِيرَاثِ.
قَسَّمَهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا فُرُوضَهُ، وَحِصَّةَ كُلِّ وَارِثٍ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَكَسْبٌ إِجْبَارِيٌّ. وَالنُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَيْهِ فَتَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ، وَحَرَّمَ الْغُلُولَ فِيهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَمَثَلُ هَذَا الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَلِفُوا قِسْمَتَهُ مَغْنَمًا، وَالَّذِي بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْمُهَجَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَيُقَسَّمُ الْمَنْقُولُ فَقَطْ، وَلَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ الثَّابِتُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: حَدَثَ هَذَا كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ سَوَاءٌ الْأَغْنِيَاءُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ، وَعَلَى الْجِهَادِ أَوِ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمْ بِمَا حَصَّلُوهُ مِنْ مَغَانِمَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَ لَابُدَّ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ نَحْوَ هَذَا الْمَالِ، وَفِعْلًا نَاقَشُوا عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ- وَلَكِنْ هُنَا يَأْتِي سَوْطُ الطَّاعَةِ الْمُسَلَّتُ، وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ الْمُسَكِّتُ إِنَّهُ عَنِ اللَّهِ أَتَاكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي جَمِيعِ التَّشْرِيعِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَخَصُّ، وَهِيَ بِهِ أَقْرَبُ، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجُ.
وَهُنَا يَنْتَقِلُ بِنَا الْقَوْلُ إِلَى مَا آتَانَا بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى بِالذَّاتِ أَيْ: مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
لَقَدْ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارُ يُؤْثِرُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ عَلَى شُحِّ نُفُوسِهِمْ، فَمُجْتَمَعُهُمْ مُجْتَمَعُ بَذْلٍ وَإِعْطَاءٍ وَتَضْحِيَةٍ وَإِيثَارٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ كَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُ الضَّيْفُ فَلَا يَجِدُ لَهُ قِرًى فِي بَيْتِهِ، فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ يُضَيِّفُ هَذَا، اللَّيْلَةَ وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» فَيَأْخُذُهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَيَأْتِيهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَطْلُبُونَهُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، فَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَأْتِيهِ الْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ، فَيَدْعُو: «يَا أَهْلَ الصُّفَّةِ» لِيُشَارِكُوهُ إِيَّاهُ لِقِلَّةِ مَا عِنْدَهُمْ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُصْرَعُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الْجُوعِ، بَيْنَمَا الْعَدِيدُ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوُو يَسَارٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُجَهِّزُ الْجَيْشَ مِنْ مَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِالْقَافِلَةِ كَامِلَةً وَمَا فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِخِيَارِ بَسَاتِينِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ، فَلَمْ يَأْخُذْ قَطُّ وَلَا دِرْهَمًا وَاحِدًا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِقَافِلَةٍ كَامِلَةٍ وَمَا تَحْمِلُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ دِرْهَمًا بِدُونِ رِضَاهُ، لِيُشَارِكَ مَعَهُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلَا مِمَّنْ تَصَدَّقَ بِبُسْتَانِهِ صَاعَ تَمْرٍ يُعْطِيهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، يَسُدُّ مَسْغَبَتَهُ، وَلَا بَعِيرًا وَاحِدًا مِمَّنْ جَهَّزَ جَيْشًا مِنْ مَالِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مُتَطَوِّعًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
إِنَّهَا أَمْوَالٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَأَمْلَاكٌ مُسْتَقِرَّةٌ خَاصَّةٌ بِأَصْحَابِهَا، فَهُنَاكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ أُخِذَ بِقُوَّةِ الْأُمَّةِ وَمَدَدِهَا لِلْجَيْشِ، جُعِلَ فِي مَصَارِفَ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ وَلِلْجَيْشِ، وَهُنَا أَمْوَالٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ تُلْمَسْ، إِلَّا بِرِضَى نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ، وَلِذَا كَانُوا يَجُودُونَ وَلَا يَبْخَلُونَ، وَيَعْطُونَ وَلَا يَشُحُّونَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَكَانَ مُجْتَمَعًا مُتَكَافِلًا مُؤْتَلِفًا مُتَعَاطِفًا وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمُجْتَمَعِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُجْتَمَعِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [59/ 8]، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِلشَّيْخِ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَلَامٌ مُقْنِعٌ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [43/ 32]، نَسُوقُ نَصَّهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَسْأَلَةٌ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الْآيَةَ [16/ 71]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [35/ 43] وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ وَنَزْعِ مِلْكِهِمِ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِيَنْعَمُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا تَحْتَ سِتَارٍ كَثِيفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقُّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ.
فَالطُّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا غَنِيٌ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلَا عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [4/ 135]، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى حَرْفِيًّا.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْزَاقَ قِسْمَةُ الْخَلَّاقِ، فَهُوَ أَرْأَفُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ فِي خَزَائِنِهِ مِنْ نَقْصٍ وَلَكِنَّهَا الْحِكْمَةُ لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ»، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُعْطِي بِقَدَرٍ، وَلَا يُمْسِكُ عَنْ قَتَرٍ.
وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ سِيَاقُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى- عَلَيْهِ فِي أُسْلُوبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [43/ 32]، وَهَذَا الضَّمِيرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ فِي قَسَمْنَا، فَلَا مَجَالَ لِتَدَخُّلِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا مَكَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَالْقِسْمَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ عَلَى إِبْطَالِهَا، ثُمَّ إِنَّ وَاقِعَ الْحَيَاةِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بَلْ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [43/ 32].
وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، وَيُقِرُّونَ نِظَامَ الطَّبَقَاتِ عُمَّالًا وَغَيْرَ عُمَّالٍ، إِلَخْ، فَلَا دَلِيلَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ هُنَا: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَبْدَأِ الْبَاطِلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.تفسير الآية رقم (7):

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
قَالَ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي الْمُقَدِّمَةِ: إِنَّ السُّنَةَ كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَيْ: أَنَّهَا مُلْزِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِالسُّنَّةِ أَخْذًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53/ 3- 4].
وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ:
وَحْيٌ أُمِرْنَا بِكِتَابَتِهِ، وَتَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
وَوَحْيٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِكِتَابَتِهِ، وَلَمْ نَتَعَبَّدْ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ السُّنَّةُ.
وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا، كَمَا جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: لَعَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ دَفَّتِهِ إِلَى دَفَّتِهِ، فَلَمْ أَجِدْ هَذَا الَّذِي قُلْتَ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ، أَوْ لَمْ تَقْرَئِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَمَنْ لَعَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ لَعَنَهَا اللَّهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لَعَلَّ بَعْضَ أَهْلِكِ يَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ لَهَا: ادْخُلِي وَانْظُرِي فَدَخَلَتْ بَيْتَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا: مَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، وَانْصَرَفَتْ.
وَجَاءَ الشَّافِعِيُّ وَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: سَلُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ عَمَّا شِئْتُمْ أُجِبْكُمْ عَنْهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سُئِلَ: الْمُحْرِمُ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَقَدِ اعْتَبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ السُّنَّةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَوَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ يُخَصِّصُونَ بِهَا عُمُومَ الْكِتَابِ، وَيُقَيِّدُونَ مُطْلَقَهُ.
فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» فَخَصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [5/ 3]، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا»، وَخُصَّ بِهَا عُمُومُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [4/ 24]، وَنَحْوَهُ كَثِيرٌ.
وَمِنَ الثَّانِي: قَطْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [5/ 38]، وَكَذَلِكَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ تَقْيِيدًا أَوْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [5/ 6]، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَبَيَانِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [2/ 43]، فَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ لِكُلِّ وَقْتٍ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْأَدَاءِ فَصَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَجَّ وَقَالَ لَهُمْ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّنَةَ أَقْوَالٌ، وَأَفْعَالٌ، وَتَقْرِيرٌ، وَقَدْ أَلْزَمَ الْعَمَلَ بِالْأَفْعَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [33/ 21]، وَالتَّأَسِّي يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفِعْلِ أَقْوَى، وَالتَّقْرِيرُ مُنْدَرِجٌ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَالتَّرْكُ فِعْلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَالتَّرْكُ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ تَنْبِيهٌ:
تَنْقَسِمُ أَفْعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:
أَوَّلًا: مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَلُبْسٍ، وَنَوْمٍ، فَهَذَا كُلُّهُ يَفْعَلُهُ اسْتِجَابَةً لِمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَيَفْعَلُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَهُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ صُورَةُ الْفِعْلِ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَوْنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ بِالْيَمِينِ إِلَخْ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَمَامِ الْآكِلِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ نَوْعُ الْمَأْكُولِ أَوْ تَرْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَانِعٍ كَعَدَمِ أَكْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلضَّبِّ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ فَكَانَ يَعَافُهُ، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يُنَاجِي مَنْ لَا نُنَاجِي، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي:
وَفِعْلُهُ الْمَرْكُوزُ فِي الْجِبِلَّةِ ** كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ مُلْهٍ

مِنْ غَيْرِ لَمْحِ الْوَصْفِ

ثَانِيًا: مَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْجِبِلَّةِ وَالتَّشْرِيعِ كَوُقُوفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا عَلَى نَاقَتِهِ، وَنُزُولِهِ بِالْمُحْصِبِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ مِنًى، فَالْوُقُوفُ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ يَتِمُّ بِالتَّوَاجُدِ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ، فَهَلْ كَانَ وُقُوفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا مِنْ تَمَامِ نُسُكِهِ، أَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ دُونَ قَصْدٍ إِلَى النُّسُكِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَا يَبْعُدُ مَنْ يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا؛ لِيَكُونَ أَبْرَزَ لِشَخْصِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ، تَسْهِيلًا عَلَى مَنْ أَرَادَهُ لِسُؤَالٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَيَكُونُ تَشْرِيعًا لِمَنْ يَكُونُ فِي مَنْزِلَتِهِ فِي الْمَسْئُولِيَّةِ.
ثَالِثًا: مَا ثَبَتَتْ خُصُوصِيَّتُهُ بِهِ مِثْلُ جَوَازِ جَمْعِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [33/ 50]، وَكُنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَنِكَاحِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [33/ 50] فَهَذَا لَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهِ.
رَابِعًا: مَا كَانَ بَيَانًا لِنَصٍّ قُرْآنِي، كَقَطْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [5/ 38]، وَكَأَعْمَالِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ، فَهُمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [2/ 43]، وَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [3/ 97]، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، فَهَذَا الْقِسْمُ حُكْمُهُ لِلْأُمَّةِ، حُكْمُ الْمُبَيَّنُ بِالْفَتْحِ، فَفِي الْوُجُوبِ وَاجِبٌ، وَفِي غَيْرِهِ بِحَسْبِهِ.
خَامِسًا: مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِجِبِلَّةٍ وَلَا لِبَيَانٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ خُصُوصِيَّتُهُ لَهُ، فَهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ لِلْأُمَّةِ كَذَلِكَ كَصَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَائِزَةٌ، فَهِيَ لِلْأُمَّةِ عَلَى الْجَوَازِ. ثَانِيهُمَا: أَلَّا يُعْلَمَ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَوَّلُهَا: الْوُجُوبُ عَمَلًا بِالْأَحْوَطِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
ثَانِيهَا: النَّدْبُ لِرُجْحَانِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا.
ثَالِثُهَا: الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ، إِذِ الْقُرَبُ لَا تُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ.
رَابِعُهَا: التَّوَقُّفُ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لَيْسَ فِيهِ تَأَسٍّ.
فَتَحْصُلُ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الصَّحِيحَ الْفِعْلُ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَمَثَّلُوا لِهَذَا الْفِعْلِ بِخَلْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَخَلَعَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنْ خَلْعِهِمْ نِعَالِهِمْ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ فَفَعَلْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِي نَعْلِي أَذًى فَخَلَعْتُهَا»، فَإِنَّهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى خَلْعِهِمْ تَأَسِّيًا بِهِ، وَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْحُكْمَ قَبْلَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ جَاءَ هُنَا مَا تَقُولُونَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي دَفْعِ الْإِيهَامِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [8/ 24]، مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لِلرَّسُولِ الَّتِي هِيَ طَاعَتُهُ لَا تَجِبُ إِلَّا إِذَا دَعَانَا لِمَا يُحْيِينَا، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}.
وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [59/ 7].
وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الْآيَةَ [3/ 31]، {وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [4/ 80].
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ آيَاتِ الْإِطْلَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُونَا إِلَّا لِمَا يُحْيِينَا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا دَعَاكُمْ، مُتَوَفِّرٌ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [53/ 3- 4].
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ آيَةَ: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، مُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ إِلَّا لِمَنْ يَدْعُو إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْأُخَرَ بَيَّنَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُو أَبَدًا إِلَّا إِلَى ذَلِكَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ كَذَلِكَ حَقِيقَةَ وَمُنْتَهَى مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «مَا تَرَكْتُ خَيْرًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا تَرَكْتُ شَرًّا يُبَاعِدُكُمْ عَنِ اللَّهِ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وَحَذَّرْتُكُمْ مِنْهُ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ».
تَنْبِيهٌ:
الْوَاقِعُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ نُطْقِ الْمُسْلِمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اعْتِرَافٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَبِمُسْتَلْزَمَاتِهَا، وَمِنْهَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِنْزَالُ كُتُبِهِ وَقَوْلَهُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اعْتِرَافٌ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ الْكَرِيمُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إِلَّا بِمَا جَاءَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَهِيَ بِحَقٍّ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [4/ 59] فَرَبَطَ مَرَدَّ الْخِلَافِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةُ النِّسَاءِ: أَمَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [4/ 80] انْتَهَى.
فَاتَّضَحَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَا أَتَانَا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ تَسْتَقِلُّ بِالتَّشْرِيعِ كَمَا جَاءَتْ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَنَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَبِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ هِيَ مَعَ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوِ ابْنَةِ أُخْتِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةِ أَهْلِهِ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذْنَاهُ، وَمَا لَمْ نَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَرَكْنَاهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».
وَالنَّصُّ هُنَا عَامٌّ فِي الْأَخْذِ بِكُلِّ مَا أَتَانَا بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَانَا عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [2/ 286]، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [24/ 61]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/ 286].
وَجَاءَ الْحَدِيثُ فَفَرَّقَ بَيْنَ عُمُومِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [5/ 2]، إِيذَانًا بِأَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْأُمَّةِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ هَذَا الْإِنْذَارُ الشَّدِيدُ؛ لِأَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، وَطَاعَتَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.